الموارد التعليمية أصبحت في متناول يدك كل ما يخص الشأن التعليمي في الوطن العربي

آخر المواضيع

‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفيروسات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفيروسات. إظهار كافة الرسائل

السبت، 6 مارس 2021

مارس 06, 2021

كيف تساعد علوم البيانات على مواجهة فيروس كورونا المستجد؟

 أحد الفروق الجوهرية بين الوباء الذي هاجم العالم قبل مئة عام وسمي بـ"الإنفلونزا الإسبانية"، وما يواجهه العالم منذ بداية العام الحالي 2020 مع فيروس كورونا المستجد، هو كم البيانات الضخمة التي تندفع من التقارير الرسمية، والدراسات العلمية المرتبطة بعلوم الفيروسات والأوبئة بشكل عام، وعائلة فيروسات كورونا بشكل خاص، وتحديد فيروسي "سارس" MERS و"ميرس" SARS.

هذا بخلاف البيانات الكبيرة Big Data المتاحة الآن في كل مكان حولنا، مما يولده المستخدمون عبر الشبكات الاجتماعية، وشبكات الاتصالات، ومحركات البحث، والعديد من المعاملات الإلكترونية. وكمثال على ذلك، يمكن عبر تتبُّع حالات البحث المتزايدة يومًا بعد آخر عن أعراض مرضٍ ما على محرك بحث مثل محرك جوجل، ربما يصلح كمؤشر لقرب ظهور وباء معين في منطقةٍ ما.



ويجمع علم البيانات Data Science بين ثلاث حزم رئيسية من العلوم، والمهارات، والمعارف، تبدأ بعلوم الإحصاء والرياضيات، ثم مهارات البرمجة، وخاصة الذكاء الاصطناعي وتعلُّم الآلة Machine Learning، ثم المعارف المرتبطة بطبيعة المجال الذي يتم رصد بياناته وتحليلها.

ويُعد مجال علوم البيانات من أكثر المجالات طلبًا في سوق العمل في العالم خلال الأعوام الخمسة الماضية، ووفق تقرير موقع "جلاس دور Glassdoor" فهي الوظيفة الأكثر طلبًا في عام 2018 في السوق الأمريكية، وهو ما ذهب إليه أيضًا تقرير لينكد-إن السنوي لعام 2017.

ولعل أبرز الجهود الحالية المتعلقة بتوظيف علوم البيانات في مواجهة فيروس كورونا المستجد، التحدي الذي أطلقه مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا في البيت الأبيض (OSTP) منتصف مارس 2020، لبناء مركز بيانات ضخم مفتوح المصدر CORD19، تشارك فيه مؤسسات حكومية، وأكاديمية، وشركات تكنولوجية، مثل مكتبة معاهد الصحة الوطنية الأمريكية NIH، ومعهد ألين للذكاء الاصطناعي، ومختبر كولد سبرينج، وجامعة جورج تاون، بالإضافة إلى شركة جوجل، ومركز أبحاث مايكروسوفت، ومبادرة تشان زوكربيرج، وعشرات من المؤسسات الأخرى.

أسئلة وتحديات الواقع

ويطرح هذا التحدي مجموعةً من الأسئلة المهمة على الباحثين وعلماء البيانات، في كل مكان في العالم، حول كل ما يتعلق بالفيروس، مثل:

  • ما الذي نعرفه عن طرق انتقال الفيروس، وفترة الحضانة، والعوامل البيئية المؤثرة فيه؟
  • ما الذي نعرفه عن أصل الفيروس، وجيناته، ومدى تطوره؟
  • ماذا يجب أن يُتَّبع من الإجراءات، وبخاصة أنظمة الرعاية الصحية؟
  • ماذا نعرف عن فاعلية التدخلات غير الدوائية، والتشخيص والمراقبة؟
  • ماذا عن مشاركة المعلومات ووسائل التعاون المشترك، والاعتبارات الأخلاقية للبحث؟
  • ماذا عن اللقاحات وبرتوكولات العلاجات المتبعة؟

وتستضيف هذا التحدي منصة Kaggle، التي تضم عددًا ضخمًا من علماء البيانات، ومطوري تطبيقات تعلم الآلة ML. جمعت المبادرة حتى الآن أكثر من 40 ألف ورقة بحثية متخصصة. يقول أحمد متولي، باحث في علوم المعلوماتية الحيوية في قسم علوم الوراثة، بجامعة ستانفورد الأمريكية: "يتفاقم الوباء بسرعة كبيرة، ونحن بحاجة إلى فهم الجوانب المختلفة المتعلقة بالفيروس، والتعلم مما ينجح أو يفشل من الإجراءات المتبعة في كل دولة، وتوقع التداعيات الاقتصادية، وكلها نقاط يمكن لعلوم البيانات أن تكون مفيدةً فيها للغاية".

ويشارك "متولي" في تحدٍّ آخر، يتعلق بتوظيف علوم البيانات والذكاء الاصطناعي لمواجهة فيروس "كورونا"، كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد أطلقه في إطار الجهود العالمية للبحث عن حلول لهذه الأزمة، وبخاصة ما يتعلق بكيفية الحماية المُثلى للفئات الأكثر عرضةً للإصابة بالفيروس، وكيفية دعم المستشفيات والمؤسسات الصحية بفرق العمل والمعدات والموارد. من جانبه، يشدد "متولي" على أن "هناك جهودًا كثيرة يمكن للبيانات أن تسهم فيها، مثل لوحة المعلومات التفاعلية التي طورها مركز علوم وهندسة النظم (CSSE) في جامعة جونز هوبكنز، وأيضًا تتبُّع النماذج الوبائية، مثل ما رصده تقرير جامعةإمبريال كوليدج البحثية".

ومن التطبيقات المفيدة الأخرى، والتي تجمع بين إنترنت الأشياء وعلوم البيانات، استخدام أجهزة المستشعرات الحيوية القابلة للارتداء، لقياس درجات الحرارة، والنبض، وغيرها من المتغيرات الصحية لدى المصابين، أو حتى الأصحاء الذين لديهم ساعات تقيس النبض والحرارة وبعض وظائف الجسد.

وهناك بحوث تعمل على جمع وتحليل البيانات الجينومية لتطور فيروسات كورونا السابقة، بما يساعد على توقُّع الطفرة القادمة للفيروس، مثل المعلومات اللحظية التي توفرها منصة Nextstrain التابعة لمركز فريد هوتش Fred Hutch. ويهدف هذا المشروع مفتوح المصدر إلى إتاحة هذه البيانات وأدوات التحليل القوية للجمهور العام، لاستخدامها بغرض رفع مستويات فهم الوباء وتحسين الاستجابة لتفشي المرض.

وهناك نموذج آخر في توظيف البيانات لتسهيل عملية محاكاة التجارب الطبية لاختيار الأدوية الأكثر فاعليةً في مكافحة الفيروس، مثل ما فعله حاسوب سومت Summit الأسرع في العالم الذي أنتجته شركة آي بي إم IBM، إذ قام بتحليل 8000 مركب، للعثور على الأدوية الأكثر فاعلية، وكانت النتيجة اقتراح 77 نوع دواء، تم ترتيبها بناء على أفضليتها.

تحدي دقة البيانات

ومع الحاجة إلى العمل على مدار الساعة لجمع البيانات وتنقيحها وتنظيمها وتحليلها، تمثل مسألة الدقة نقطة جوهرية، خاصة مع وجود حالات اختلاف أو تعارُض في بعض الأحيان حول البيانات المتاحة، وهذا قد يشمل مصادر موثوقة، مثل ما تنصح به منظمة الصحة العالمية بالابتعاد مسافة أكثر من متر للوقاية من فيروس كورونا، بينما اعتمد مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها CDC دراسةً تقول إن المسافة يجب ألا تقل عن 4 أمتار.

وهناك قائمة كبيرة من الاختلافات، مثل مدى تأثر الفيروس بالحرارة، والجدل المثار حول إمكانية انتقاله عبر الهواء، وفترات بقائه على الأسطح. يرى بول ماكلاكلن -مدير علوم البيانات بمركز أبحاث الذكاء الاصطناعي بشركة إريكسون- مشكلة دقة البيانات المتعلقة بفيروس كورونا المستجد مشكلةً عالمية مرتبطة بطبيعة هذا الفيروس المجهول.

ومع ذلك فإنه يعتقد أنها ليست مشكلة تعجيزية، ويقول: "لحسن الحظ، لدى علم البيانات العديد من الطرق لتقييم جودة البيانات، وقياس عدم اليقين حول التقديرات المستخلصة، مثل تحليل حساسية البيانات، واختبار أنظمة محاكاة للتأكد".

ويعتقد بعض المتخصصين أن مشكلة عدم وجود بيانات كافية تمثل تحديًا أكبر من وجودها مع عدم دقة بعضها. يقول علي عبد الهادي، أستاذ الرياضيات، ومؤسس برنامج العلوم الإكتوراية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة: "يجب أن تتوافر البيانات الرئيسية أولًا، لكي تقوم علوم البيانات بدورها، وتحديدًا في نطاقين زماني ومكاني spatio-temporal، ثم تضاف المتغيرات الأساسية، مثل حالات الإصابة والشفاء والوفيات".

ويضيف: يعتمد عملنا على توافر البيانات، فإذا لم تتوافر لا يمكن التنبؤ بمعدلات الانتشار المستقبلية، ما يؤثر على توجيه الدعم المناسب بصورة استبقائية للمناطق الحرجة.

يتفق معه "ماكلاكلن"، الذي يُعد أحد علماء البيانات البارزين في العالم، ويقول: "العديد من البلدان ليس لديها بيانات كافية لتوصيف نطاق وطبيعة انتشار الفيروس، خاصةً مع كون نسبة كبيرة من الأشخاص المصابين لا تظهر عليهم الأعراض، وهذه ليست عقبةً بسيطة؛ لأنها تصعِّب مهمات الحكومات في التعامل مع الفيروس، وتقوِّض قدرتها على تحديد الموارد المناسبة، أو اتخاذ الإجراءات السليمة في التوقيت المناسب، أو تتبُّع الحالات المخالطة".

الفيروس والبيانات والخصوصية

تعتمد دول كثيرة في العالم على طرق مختلفة في جمع البيانات المتعلقة بالفيروس وعرضها، ولكن وفق تصريحات منظمة الصحة العالمية، فأغلب دول الشرق الأوسط متعاونة وترسل معلوماتها بانتظام، ومنها الحكومة المصرية، وهو ما علق عليه عمرو طلعت -وزير الاتصالات المصري- قائلًا: "منذ بداية الأزمة والحكومة تعمل على توظيف البحوث التطبيقية وحلول الذكاء الاصطناعي لتنفيذ أفضل الإجراءات وفق البيانات المتاحة"، مؤكدًا أن وزارة الصحة هي التي تمتلك البيانات المتعلقة بتطور فيروس كورونا المستجد في مصر.

وحول استعانة الحكومة المصرية بتطبيقات تعتمد على توظيف بيانات المستخدمين على الهواتف المحمولة، ويمكنها رصد تحركاتهم للتحذير في حالة الاقتراب من أماكن تشهد حالات مصابة بالفيروس، كما فعلت الصين، وكما هو الحال مع أمريكا التي أطلقت نموذجًا مشابهًا، قامت بتطويرهشركتا جوجل وآبل.

أقر وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصري بتفكير الحكومة في الاعتماد على مثل هذه التطبيقات. وبسؤاله حول مدى تأثيرها على خصوصية المستخدمين، أكد: هذا يُعد أحد الأسباب التي تجعلنا نتروى فيما يتعلق بمثل هذه الخيارات، لضمان أنها ستكون مفيدة، دون أن تمثل انتهاكًا لخصوصية المستخدمين.

بعد هذه التصريحات، أطلقت وزارة الصحة بالفعل تطبيق "صحة مصر"، الذي يعمل على جمع بيانات من المستخدمين Crowdsourcing، بالتحذير من الاقتراب من الأماكن التي سُجِّلت فيها حالات إصابة.

ووفق أحمد متولي، تمثل خصوصية الأفراد تحديًا كبيرًا أمام علماء البيانات في أزمة مفاجئة مثل Covid19، وهو ليس بالتحدي الهين، خاصةً في الدول التي لديها تشريعات تحمي خصوصية البيانات، مثل قانون الاتحاد الأوروبي GDPR لحماية البيانات، وكذلك قواعد الخصوصية الأمريكية HIPAA التي تحمي السجلات الطبية للمواطنين، مطالبًا بالتعامل الجاد مع هذا التحدي؛ لمنع العواقب الخطيرة لانتهاك البيانات.

ومن جانبه كشف عماد الأزهري -مدير إستراتيجية البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي في فودافون مصر- أن مسألة الخصوصية تختلف من جيل إلى آخر، وفق بحث أجرته معامل البحث والتطوير لدينا، أكد أن الأجيال الحديثة -خاصة جيل Z وما بعده- لديهم حرص أقل على خصوصية البيانات مقارنة بالأجيال الأكبر. ويمتاز هذا الجيل بأنه كبر وترعرع في عصر الإنترنت والشبكات الاجتماعية والهواتف الذكية، ما أثر بصورة كبيرة على مهاراته ومعارفه وسلوكه، وهو ما يجب أخذه دائمًا في الاعتبار.

بينما يرى "ماكلاكلن" أن هناك الكثير الذي يمكن فعله دون اللجوء إلى رفع ستار خصوصية البيانات، وضرب مثلًا بتحدي (CORD-19) الذي أطلقه مكتب البيت الأبيض للتكنولوجيا والسياسات، وقال :"أعمل مع 400 باحث ومتطوع من داخل معامل أبحاث شركة إريكسون باستخدام الذكاء الاصطناعي، وعلوم البيانات في هذا الشأن، اعتمادًا على نتائج الآلاف من أوراق بحثية كاملة".

الأحد، 28 فبراير 2021

فبراير 28, 2021

الفيروسات: ليست مميتة فحسب.. بل قد تكون طعامًا شهيًّا




 بعد أن احتَجَزَنا فيروس واحد كرهائن لسبعة أشهر مرّت علينا وكأنها سبعة أعوام، أصبح من الممكن للكثيرين منّا استخدام طريقة انتقام قديمة الطراز، وإن كانت فعّالة. فقد اكتشف العلماء مكانًا تضطر فيه الفيروسات إلى أخذ احتياطات التباعد الاجتماعي، إنه المحيط.

عدد الفيروسات في مياه البحار يفوق بمراحل عدد أشكال الحياة الخلوية؛ إذ تحوي مياه البحار ما يقدَّر بـ1030 فيريونًا. وضحاياها عادةً ما تكون من البكتيريا أو الميكروبات الأخرى. ويصيب هذا الحشد الفيروسي 1023 من هذه المخلوقات في الثانية الواحدة، ويقتل كل يوم 20% من الكتلة الحيوية الميكروبية في المحيطات (تتكاثر ميكروبات المحيطات بسرعة كبيرة، ومع ذلك فهي غالبًا تحافظ على التوازن البيئي). من الصعب تخيُّل ألا تلفت هذه الجحافل ذات العدد الهائل انتباه الجائعين الذين يتناولون كل شيء تضمه جنبات البحار.

تتسم الفيروسات أيضًا ببعض الخصائص التي تجعلها مُقبّلات جذابة. فعند مقارنة الفيروسات بأشكال الحياة الخلوية، نجد أن الفيروسات مصدر غني للفوسفور والنيتروجين، فضلًا عن كمياتها الوفيرة، مما يجعلها مقبِّلات صغيرة مغذية.

ومع ذلك، فقد ساد اعتقاد لفترة طويلة بأن الفيروسات البحرية لا تؤدي إلا وظيفةً واحدة، وهي القتل. وكأنها حفرة إعادة التدوير المليئة بالوحل في فيلم "عالم الماء" Waterworld، فقد نظر علماء الإيكولوجيا إلى دور الفيروسات على أنه "تحويلة فيروسية"، وهي طريقة تخيلية للقول بأن الفيروسات تستطيع بسهولة تحويل الكائنات الحية إلى فتات مكوَّن من "مجموعة من المواد العضوية الذائبة"، ولكن تقريرًا حديثًا نُشر في دورية "فرونتيرز إن ميكروبيولوجي"Frontiers in Microbiology أشار إلى أن العكس قد يكون واردًا، أي أن تكون هذه الميكروبات هي التي تتغذى على الفيروسات.

حتى هذه اللحظة، لم أكن أنظر إلى الفيروسات باعتبارها مادةً غذائيةً محتملة، وعلى ما يبدو فإن كثيرًا من العلماء كانوا يتفقون معي في ذلك. فعلى الرغم من أن خمس دراسات على الأقل كانت قد أشارت إلى أن الميكروبات قد تفترس الفيروسات، منها هذا التقرير الأخير، إلا أن أحدًا لم يواصل الدراسة لاكتشاف مدى انتشار هذه العملية في الواقع، أو مدى أهميتها.

لكن فريقًا من العلماء الأمريكيين والإسبان قرر مؤخرًا فحص ما إذا كان هذا السيناريو يقتصر بالفعل على الفيروسات فحسب، وإلى أي مدى يتوافر بديل له، وذلك عن طريق فحص خلايا الميكروبات البحرية بحثًا عن الجينات الفيروسية ذات الصلة.

لم تكن الميكروبات المعنية عبارة عن بكتيريا أو عتائق (وهي أبسط أشكال الخلايا). بل كانت هي الطلائعيات، وهي أشكال حية بالغة الصغر –تشبه أبناء عمومتها الأكبر حجمًا المعروفة بالنباتات والحيوانات– وتحتوي على تركيبات خلوية معقدة تسمى العضيات، تحتوي بدورها على الحمض النووي، وتنتج الطاقة وتؤدي جميع أنواع الوظائف الأخرى. حلَّل هذا الفريق مجموعةً متنوعةً من الطلائعيات المأخوذة من عينات من مياه خليج ماين والبحر المتوسط. وأمكن الكشف عن الجينات الفيروسية في 51% من خلايا الطلائعيات المأخوذة من الخليج و35% من خلايا الطلائعيات التي استخلصها العلماء من البحر.

كانت المجموعتان اللتان وجدهما الفريق، البيكوزوا والقمعيات، مرتبطتين دائمًا بالفيروسات، وكانتا تحتويان على عدد من التسلسلات الفيروسية لكل خلية يفوق العدد الذي تحتويه المجموعات الأخرى.

وعلى الرغم من أن شُعبتي القمعيات والبيكوزوا غامضتان بالنسبة للبشر، إلا أنهما تتسمان بالأهمية وبكونهما توجدان بأعداد وفيرة في المحيط. يماثل حجم البيكوزوا حجم البكتيريا، وهو حجم ضئيل حتى لو قارنَّاه بالطلائعيات. وقد كانت هذه المخلوقات جديدةً تمامًا على العلم الذي بدأ دراستها اعتبارًا من عام 2007، على الرغم من كونها تتوالد بغزارة تكفي لجعلها تشكِّل نصف الكتلة الحيوية في المياه الساحلية، التي تتصف أصلًا بكونها فقيرةً في المغذيات.

تُعد شُعبة القمعيات، ويُطلق عليها أيضًا السوطيات الطوقية، أقرب الكائنات الحية إلى الحيوانات، ولها قبعة أنيقة وذيل يساعدها في الحركة والتقاط الفريسة. وعلى الرغم من أن القمعيات ذات حجم ضئيل أيضًا، تشير التقديرات إلى قيامها بترشيح 10-25% من المياه السطحية الساحلية كل يوم، وهي كمية مذهلة.

في هذه الدراسة، بلغ متوسط عدد التسلسلات الفيروسية في شُعبة القمعيات 28 تسلسلًا فيروسيًّا لكل خلية، في حين بلغ في البيكوزوا 5.7. ومع ذلك، نظرًا إلى أن هاتين المجموعتين لا تضمان سوى 22 جينومًا فقط من أصل 1698 جينومًا مُكتشَفًا، فإن هذه النتائج تمثل نتائجَ موحيةً بالتأكيد، ولكنها ليست نتائجَ نهائيةً بأي حال من الأحوال.

فما الذي يمكنه تفسير وجود هذه الفيروسات داخل عدد كبير من الطلائعيات التي خضعت للدراسة؟ قد يتوقع المرء أن الفيروسات إذًا دخلت كطفيليات لا كطعام، لكننا وقتها كنا سنلاحظ مجموعةً متنوعةً من التسلسلات لاستهداف العديد من الكائنات المضيفة المحتملة. ومن ناحية أخرى، إذا كانت الفيروسات طعامًا، فقد لا نتوقع سوى عدد قليل من التسلسلات؛ إذ تلتهم آكلات العشب والحيوانات المفترسة بشكل عشوائي أكثر الفيروسات وفرة.

في هذه الدراسة، كانت معظم الفيروسات التي تم اكتشافها متطابقةً تقريبًا، وكان القليل منها خاصًّا بطلائعيات معينة، والعديد منها يصيب البكتيريا فقط: العاثيات وفيروسات gokushoviruses. كذلك تم الكشف عن مجموعة جديدة وغامضة إلى حدٍّ ما تسمى فيروسات CRESS DNA، التي تتنوع الكائنات المضيفة لها. وهذه أيضًا تحتوي على تسلسلات متطابقة تقريبًا.

يقول المؤلفون إن الافتراض الذي يقول إن فيروسات شبه متطابقة كانت تصيب جميع الخلايا التي دُرست في هذا التقرير بالعدوى، ربما يعني أن بعض الفيروسات قادرة بالفعل على إصابة كائنات حية من شُعب مختلفة، تقع في مرتبة تصنيفية أسفل المملكة مباشرة. ولا يوجد فيروس معروف يمكنه فعل ذلك.

ما هي البدائل الأخرى إذًا؟ من الممكن أن تكون الفيروسات قد أدخلت نفسها في جينومات الطلائعيات، وهو عمل مُدهش يشتهر به فيروس جدري الماء (إذ يمكنه معاودة الظهور بعد أعوام من الإصابة الأولى، كالقوباء المنطقية، أو الهربس النطاقي). وقد ينتهي الأمر بأن تُقيم العديد من الفيروسات الأخرى بشكل دائم في جينوم الكائن المُضيف، وهو أمر مثالي بالنسبة للفيروس؛ لأنه يمنحه الخلود دون أن يُضطر إلى بذل جهد مستمر في محاولة العثور على كائن مضيف جديد. لكن التسلسلات شبه المتطابقة التي اكتُشفت تقف مرةً أخرى أمام هذا الافتراض؛ لأن الطفرات العشوائية في الفيروسات المعزولة داخل جينومات معينة يجب أن تقودنا إلى تسلسلات متنوعة بدورها.

ربما انتهى المطاف بالفيروسات داخل أجسام الطلائعيات لأن الأخيرة كانت تتغذى على البكتيريا المُصابة بعدوى هذه الفيروسات. لكن العديد من الطلائعيات كانت تحتوي على جينات فيروسية، دون وجود أي جينات بكتيرية. ومن الممكن أيضًا أن يكون وجود الفيروسات مع الطلائعيات في أوعية العينات مجرد وجود عشوائي. لكن مشكلة تلك الفكرة أنها تتعارض مع حقيقة أخرى، هي أن بعض سلالات الطلائعيات تحتوي على فيروسات أكثر بكثير من غيرها.

ربما يكون هناك شيء حول أسطح البيكوزوا والقمعيات يجعلها تلتصق بالفيروسات بشكل خاص. لكن المؤلفين يقولون إن طريقة تناوُل هذه الطلائعيات لطعامها ترجح احتمال أنها تتغذى على الفيروسات. فهي كائنات تتغذى بالترشيح، أي أنها تأكل كل ما يمكنها ابتلاعه، وذلك من سوء حظ أي شيء يوقعه حظه العاثر في الاصطدام بها. ونظرًا إلى أن الدراسات السابقة أظهرت أن شُعبتي القمعيات والبيكوزوا قادرتان بالتأكيد على تناوُل الفيروسات، فإن وجودها العالمي ووفرتها يشيران إلى أن هذا هو بالضبط ما تفعله الطلائعيات.

كما أن العادات الغذائية للقمعيات والبيكوزوا قد لا تكون فريدةً من نوعها. فالعديد من مجموعات الطلائعيات الأخرى في هذه الدراسة كانت تحتوي أيضًا على تسلسلات فيروسية أكثر مما يمكن أن يكون مجرد صدفة، ولكن نظرًا إلى أن هذه الطلائعيات الأخرى تتغذى بطرق متعددة، فقد أحجم المؤلفون عن استخلاص نتائج حول وجود الفيروسات.

وباستعراض ما سبق، فليس من المستغرب تمامًا أن يجرف التيار البروتينات والحمض النووي كأنها قطع صغيرة هائلة العدد ومجردة من وسائل الدفاع، ليبتلعها أي شيء تواجهه في طريقها. وقد عرضت ورقة بحثية نُشرت أيضًا هذا العام في دورية"ساينتفك ريبورتس"Scientific Reports، أن الإسفنج البحري كان فعالًا للغاية في إزالة الفيروسات من مياه البحر، وخلُص أيضًا إلى أنه ربما يأكل الفيروسات.

الطلائعيات... الإسفنج ... كم عدد المخلوقات التي تندرج الفيروسات ضمن هرمها الغذائي؟ ولماذا لا نعرف ذلك؟ وكيف يمكننا المشاركة في الحدث؟

إن فكرة أن الفيروسات تُعتبر طعامًا لأي كائن مربكة للعقل بعض الشيء، لكنها أيضًا فرصة هائلة للاقتصاص من هذه الكائنات المرعبة. يأتي هذا الاكتشاف في لحظة يستطيع فيها البشر فعليًّا الاستفادة منها. فبينما نقع تحت سيطرة فيروس واحد، ربما نجد التعويض في أن هناك جحافل من الفيروسات الأخرى تنتهي في مريء خلية حية تتنفس.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *